حكاية الثريّا التي رجعت تسفّ الثري
وبعد عشرين عامًا، لما قرأت عن كنز العجوز
اللداوية ثريا عبد القادر مقبول، كيف أضاعته لسلامة طويتها، أي لسذاجتها،
أيقنت أنني أحسنت صنعًا لما لم أبق عنصرًا من عناصر الخطر والفجاءة إلاّ
حسبت حسابه، واحتطت له حيطة شديدة، حتى بقي سري دفينًا ما كشفت عنه إلاّ
الآن، ولك يا محترم.
ففي العاشر من أيلول، من العام الخامس ب. ح ،
الموافق عام 1971م روت صحيفتكم الاتحاد، عن معاريب، عن هآرتس، عن الشرطة
الإسرائيلية العامة، عن شرطة اللد الإسرائيلية، أن السيدة العجوز ثريا عبد
القادر مقبول، السن خمسة وسبعون عامًا، عادت من الأردن إلى بلدها ومسقط
رأسها، مدينة اللد، بموجب نظام العطلة الصيفية عبر الجسور المفتوحة. وذلك
بعد أن ظلت بعيدة عن بلدها ثلاثة وعشرين عامًا لاجئة في عمان مع زوجها
وأولادها.
عاشت في عمان مع زوجها وطفلها وأبي عمرة الذي رحمها فلم تنجب
منه أطفالاً. حتى شب ولداها، فسعيا إلى الكويت في طلب الرزق. فعادا بحفنة
نفط أحمر، شيدا بها بيتًا في عمان، شيعا منه والدهما إلى مقره الأخير. ثم
أقبل أيلول الأسود، عام 1970، على صورة دبابة هاشمية نقية تقية من طراز
شيرمان، هدمته فلم يخرج من تحت الأنقاض سالمًا سوى الثريا وطويتها السليمة.
فلما
وقفت ثريا عبد القادر مقبول بين الأنقاض في صحراء الغربة القاحلة، تذكرت
عزها الدارس في فردوسها المفقود، في بيتها العامر في اللد. وكانت خبأت
مفتاحه في نقره في الجدار. وكانت جمعت مصوغاتها في صفائح دفنتها في ذلك
الجدار. وكانت توكلت ونزحت مع النازحين عام 1948، وهي تؤكد لنفسها: غدًا
أعود.
فلما أقبل هذا الغد، بعد ثلاثة وعشرين عامًا، أزمعت أمرها. وفي الصيف عبرت الجسر المفتوح. فضيعت اللبن.
ولما
أرادت أن تدخل بيتها القديم في اللد لتنتشل كنزها، أغلقت وريثتها الشرعية،
من عهد نوح، الباب في وجهها. فلم تفاجأ حيث إن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة.
فنصحها
ذوو القربى، المقيمون في إسرائيل، أن تلتجئ إلى قبضة الأمن وعسس النظام،
أي إلى الشرطة الإسرائيلية. فعملت بالنصيحة. فأرسلوا معها رجل شرطة ورجلاً
قيمًا على أراضي إسرائيل. فلم يشاؤوا أن يقلقوا راحة الوريثة الشرعية،
فأتوا منزل العجوز من خلف جداره، في منزل يقيم فيه ذوو قربى. فأحسنوا
وفادتها. فأشارت إلى مكان في الجدار، فحفروا عميقًا. فوجدوا صفائح
المصوغات. ثم أشارت إلى مكان آخر. فحفروا. فوجدوا المفتاح. فهللوا وكبروا
واغرورقت عيون الجمع. ومسح الشرطي دموع رجل القيم بمنديله. فقوم القيم
إنسانية رجل الشرطة تقويمًا عاليًا، فمسح دموعه بمنديله. وتعانق العرب
واليهود. وتعايشا بدموع الفرحة والامتنان والإنسانية. فأبلغوا رجال الصحف.
فنشروا الخبر. وأذاعته الإذاعة. وكم من معلمة في روضة أطفال، في تلك الأيام
المشهودة، روت هذه الحكاية على أطفال الروضة، عن شرطة إسرائيل التي تبحث
عن كنوز الأمهات الثكالى العربيات وتبحث عن الأطفال اليهود الضائعين، ولا
يغمض لها جفن.
ولكن، حين مدت الأم الثكلى (الثريا)، يدها لتطول مصوغات
عرسها، ناولها رجل القيم على أراضي إسرائيل (شهادة بالذهب، وأخذ الذهب
وذهب. وأما الثريا فأخذت (شهادة الذهب) وذهبت، عبر الجسور المفتوحة، راجعة
لتسف الثرى في مخيم الوحدات ولتدعو بطول البقاء لذوي القربى ولأولاد عمهم.
حادث أصعب على التصديق من الموت على الأحياء
ظل ما حدث في تلك الأمسية الخريفية، على شاطئ الطنطورة المهجور، سرًا
مصونًا من أسرار الدولة حتى يومنا هذا. ولكنني لا أعتقد أنهم سيحولون بينك
وبين إذاعته بعدما جري منذ حزيران.
ولا أعلم ما دونوه في دفاترهم المحفوظة عما جرى في تلك الأمسية: أما ما حفظته في صدري ولا أنساه جملة وتفصيلاً، فهو ما يلي:
وقفنا أمام القبو الخرب، الذي قالوا أن (ولاءً ) مختبئ فيه بأسلحته ومتفجراته، فتكلمت (باقية):
- دعني له، فأنا أمه. ولم أحمله جنينًا فقط بل حملته سري، وحملته أملي.
فانتحيت جانبًا وجلست على سور متداعٍ أنظر إلى البحر الساكن فلا أرى، وأنظر إلى الشمس الغاربة فأشعر بالغربة.
واقتربت أمه من القبو المهجور، خطوة، ثم اقتربت منه خطوة أخرى، ثم نادت عليه:
- ولاء، يا ولاء. بني لا تطلق الرصاص فأنا أمك! فأطبق صمت.
- لا جدوى من المقاومة، فقد كشفوا أمرك.
فأتانا صوته، وقد جعله العمق أجش، وهو يتكلم، كعادته، مضطرًا:
- كيف?
- هم أرشدوني إلى مخبئك.
لست بمختبئ، يا أماه. إنما حملت السلاح لأنني مللت اختباءكم. فأطبق صمت.
حتى عاد صوته يأتينا من الأعماق. فعجبت لهذا الصوت العميق كيف يحتويه صدره الضامر:
- يا امرأة، يا التي هناك، من أنت?
- أمك أنا يا ولاء، فهل ينكر الولد أمه?
- أمي، وتجيء معهم!
- بل أرسلوني، مع والدك، وحدنا يا ولاء... ها هو جالس على بقية سور ينتظر إنقاذ بقيته.
- فلم لا يتكلم?
- إنه لا يحسن الكلام.
فتنحنحت.
- ما الذي جاء بك، يا أماه?
- أرسلوني كي أقنعك بأن تلقي سلاحك، فتخرج إلينا، فتسلم.
- لماذا?
- قالوا: رحمة بي وبأبيك.
- قه، قه، قه..
- أتطلق الرصاص على البطن الذي حملك?
- بل أقهقه، يا أماه. أرأيت كيف أصبحوا يتحدثون عن الرحمة. فكيف بهم إذا لعلعت?
فتنحنح العسكر.
- ولكنهم لا يرحمون أحدًا يا ولدي.
- فخفتهم?
- خوفي عليك يا ولاء.
فأطبق صمت، حتى عادت تناديه:
- ولاء يا ولدي، ألق سلاحك واخرج!
- يا امرأة، يا التي جئت معهم، إلى أين أخرج??
- إلى الفضاء الرحب يا بني. كهفك ضيق، مسدود كهفك. وسوف تختنق فيه.
- أختنق?.. أتيت إلى هذا الكهف كي أتنفس بحرية. مرة واحدة أن أتنفس بحرية!
في المهد حبستم عويلي. فلما درجت أبحث عن النطق في كلامكم، لم أسمع سوى الهمس.
في
المدرسة حذرتموني: احترس بكلامك! فلما أخبرتكم بأن معلمي صديقي، همستم:
لعله عين عليك! ولما سمعت حكاية الطنطورة، فلعنتهم، همستم في أذني: احترس
بكلامك!
فلما لعنوني:
احترس بكلامك!
وحين اجتمعت بأقراني، لنعلن إضرابًا، قالوا لي، هم أيضًا: احترس بكلامك!
وفي
الصباح، قلت لي، يا أماه: إنك تتكلم في منامك، فاحترس بكلامك في منامك!..
وكنت أدندن في الحمام، فصاح بي أبي: غيِّر هذا اللحن. إن للجدران آذانًا،
فاحترس بكلامك!
احترس بكلامك! احترس بكلامك!
أريد ألاّ أحترس بكلامي، مرة واحدة!
كنت أختنق!
ضيق هذا الكهف يا أماه، لكنه أرحب من حياتكم!
مسدود هذا الكهف يا أماه، ولكنه منفذ!
فأطبق صمت حتى سمعنا صليل أسلحة من بعيد، فهتفت به أمه:
- منفذ?
الموت ليس منفذًا بل نهاية.
ليس في حياتنا ما يعيب حياتنا. فإذا استترنا فعلى أمل الخلاص استترنا. وإذا احترسنا فحرصًا عليكم.
أي عيب في الخروج إلينا، إلينا نحن يا ولاء، أبيك وأمك. وحيدًا لا تقدر على شيء.
- أقدر عليكم.
- لسنا أعداءك.
- لستم معي.
- بني، احترس..
- قه، قه، قه.. قوليها، يا أماه: احترس بكلامك! لقد أصبحت حرًا!
- حرًا..
كنت أعتقد أنك حملت السلاح لتنتزع حريتك!..
فأطبق صمت حتى سمعتها تقهقه:
- لو كنا أحرارًا، يا ولدي، ما اختلفنا. لا أنت تحمل سلاحًا ولا أنا أدعوك إلى احتراس. إنما نحن نسعى في سبيل هذه الحرية.
- كيف?
-
مثلما تسعى الطبيعة في سبيل حريتها. فالفجر لا يطلع من ليله إلاّ بعد أن
يكتمل ليله. والزنبقة لا تبرعم إلاّ بعد أن تنضج بصلتها. الطبيعة تكره
الإجهاض يا ولدي.
والناس لا يتحملون ما أنت مقدم عليه.
- سأتحمل عنهم حتى يتحملوا عن أنفسهم.
- ولدي، ولدي،
هل هناك أجمل من وردة في عروة شاب? ولكن أمها لا تستطيع أن تمدها بالغذاء. دعني أضمك إلى صدري.
فأطبق صمت، حتى سمعته يتأوه:
- أماه، أماه، حتى متى ننتظر برعمة الزنابق?
- لا تنتظر يا بني. إنما نحن نحرث ونزرع ونتحمل حتى يحين الحصاد.
- متى يحين الحصاد?
- تحمل!
- تحملت عمري.
- فتحمل!..
- سئمت خنوعكم.
-
لدينا فتية وفتيات لم يخنعوا. فاحذُ حذوهم! تحملوا أطول ليل، فحملوا الشمس
فوق جباههم. ما استطاعوا إخراجهم من أرض إلاّ إلى زنزانة. وما هدموا عليهم
بيتًا إلاّ بعد أن هدموا عليهم أسطورة..إنك يائس، يا ولدي.
- لا أرى حولي سوى الظلام.
- في الكهف.
- حياتي كلها كهف.
- فأنت لا تزال في البصلة تتبرعم. اخرج إلى نور الشمس!
- أين مكاني تحت الشمس?
- تحت الشمس.
- الدنيا بخير، يا ولدي. فكم من شعب انتزع حريته. وسيأتي موسمنا.
- أتظلين تحلمين بالجزر السبع وراء البحيرات السبع?
- إنها جزرنا وبحارنا.
والسندباد، يا ولاء، كف عن رحلاته، وصار يبحث عن الكنوز في تراب أرضه.
- حياته على أرضه لا تطاق.
- حين تصبح الحياة أرخص من الموت يصبح ما أصعب من بذلها أن نعض عليها بالنواجذ.
- ستموتين يا أماه، دون أن يعود أهلك.
- قبل أن يعود أهلي!
- كيف?
- الزمن. دع الزمن يزمن.
- قه، قه، قه.
- أترميني بالرصاص? أتقتل التي خلفتك?
- بل الزمن يقتل التي خلفتني ويقتلني.
لا تستخف بالزمن، يا ولاء. فبدونه لا ينبت زرع فنأكل.
ولا تطلع شمس بعد مغيب..
فهل جاء?
- سيجيء.
ولا يخرج سجين من سجنه.
- فهل خرج?
- سيخرج.
ولا تعبر تجربة حتى يتعظ الناس.
- فهل اتعظوا?
- هل تريد لجيل واحد أن يحسم في الأمر?
- جيلي
- لماذا?
- لأنه جيلي.
- بأي سلاح يحارب جيلك?
فأطبق صمت.
حتى سمعتها تسأله، مثلما كانت تسأله، وهو طفل، أن يقبلها:
- أي سلاح في يدك الآن يا ولاء?
- رشاش قديم من الصندوق.
فرأيتها
تندفع راكضة نحو القبو المهجور، ويداها ممدودتان على جانبيها، كجناحي طير
يسرع إلى عشه ليحمي جوازله، حتى كادت تغيب في فتحته المعتمة. وإذا به يصيح
فيجمدها في مكانها:
- إنهم قادمون وراءك، يا أماه. فهل تحمينهم بحبي?